البروفسور بيار الخوري. باحث وخبير اقتصادي – اذا حصلت الحرب بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية نكون أمام سيناريو مثالي تقليدي لوسائل صناعة الحرب: تعجز السياسة عن الاستمرار فتستمر بالحرب. ولكن لهذه الحرب الممكنة مقاربات مختلفة وخاصة عن حربي الخليج ١٩٩٠ و٢٠٠٣.
دعونا نقول ان هناك حد اقصى هو الحرب الكلاسيكية وحد أدنى، وهو قائم حاليا بالفعل، يقوم على تشغيل المؤسسة العسكرية الأميركية الأعلى كلفة بين جيوش العالم اجمع،
موازنة الدفاع الأمريكية تعادل عشرة أضعاف الموازنة العسكرية الروسية وأكثر من خمسة أضعاف تلك الصينية، وهي تشكل عبئا متنامياً على دولة تعيش على أضخم عجز موازنة في العالم واضخم دين عام.
لكن هذا الإنفاق العسكري ضروري لأن قطاع التسليح والصناعات العسكرية والبحث العلمي المرتبط بهما هي أجزاء مدمجة بتركيب الاقتصاد الأميركي. وقد نجحت الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في الابقاء على حصة متزايدة للإنفاق العسكري ضمن مجموع نفقات الدولة من خلال تضخيم مبرمج للخطر الإسلامي وأدخال مفهوم مطاط للإرهاب يمكن أن تحشو تحته كل ما يؤمن اقتناع وقبول دافع الضرائب الأميركي بالمزيد من التسليح.
وقد حاولت إدارة الرئيس أوباما تخفيض الميزانية العسكرية من خلال تخفيض حجم الجيش والتركيز على الحرب على الإرهاب بدل الصين وروسيا الا ان إدارة الرئيس ترامب إعادة الإنفاق العسكري إلى القمة مع ٧٠٠ مليار دولار وهي أضخم ميزانية عسكرية في تاريخ الولايات المتحدة والعالم.
المعضلة الان ان الاقتصاد الأميركي يحتاج الإنفاق العسكري لكن حجم هذا الإنفاق (كونه انفاق غير منتج) يخفض من تنافسية هذا الاقتصاد نفسه. ولكن يمكن لهذا التسلح ان يكون منتجاً، كيف؟
منذ وصول الرئيس ترامب إلى السلطة وهو يطالب أوروبا ودول اسيان ودول الخليج العربي بدفع ثمن الحماية الأمريكية، اي أيجاد إيرادات موازية (ليس تماماً) للاقتصاد الأمريكي يمكنها اراحة المنتج الأميركي من تحمل عبئ التسلح. (لاحظ ان إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي لا يطالبها ترامب بثمن الحماية).
لقد نجح ترامب في انتزاع اكثر من ٤٠٠ مليار دولار أميركي من المملكة العربية السعودية على شكل استثمارات في الاقتصاد الأميركي، لكن ترامب مهد لذلك باعتبار هذه الأموال هي ردّ جميل مقابل الحماية الأمريكية. وتحدث بوقاحة موصوفة عن الدولة التي تملك ٤ تريليار دولار يحتاجها الاقتصاد الأميركي مقابل الحماية عينها.
حسناً لنعد إلى موضوع الحرب، ماذا يضير الولايات المتحدة اذا دفعت التوتر والحشود إلى الحدّ الأقصى دون الانزلاق إلى الحرب؟ خاصة في ظل تصفير تصدير النفط الإيراني. خنق إيران بهدوء وتمويل الآلة العسكرية الضخمة من كيس غير أميركي. معادلة رائعة!
صحيح ان ما يسميّه الإيرانيون “٤ ب” يضغطون في سبيل الحرب لكن ذلك لن يكون مثالياً للولايات المتحدة بسبب السيناريو الثاني.
سيناريو الحرب!
الولايات المتحدة تحتكر علوم العالم بلا منازع، لديها أقوى مراكز الأبحاث وأفضل العلماء والمهندسين واكبر ميزانيات البحث وتبتعد مسافة طويلة في حجم براءات الاختراع. رغم ذلك اخترقت الصين مبدئياً هذه المملكة بما نعرفه حتى الآن في الاختراق الواسع لمجال الذكاء الاصطناعي وتقنيات الاتصال. وهذه مسألة حساسة جداًِ، أن اختراق الذكاء الاصطناعي الذي أظهرته الصين بتقنية الجيل الخامس لا زال سراً ولغزاً في الولايات المتحدة. لا أحد يعلم ما هو إنجاز الولايات المتحدة الحقيقي في عسكرة الذكاء الاصطناعي. وهذه الحرب لا يمكن حسمها بالوسائل التقليدية العسكرية. إيران فخخت المنطقة بالكامل وأي حرب تقليدية سوف تعطي إيران فرصة ممارسة، او التهديد بممارسة، خيار شمشون تدريجاً او دفعة واحدة حسب ظروف الحرب (راجع مقالتي خيار شمشون والذكاء الاصطناعي على موقع اسود ابيض) .
هذا الخيار يعني فعلياً السقوط الكبير للاقتصاد الأميركي وربما النظام النقدي الدولي الذي يصنع عظمة أميركا. يبقى الذكاء العسكري الاصطناعي هو الورقة الأميركية الممكنة ضمن هذا السيناريو… ولكن. بحسب الإستراتيجية الأميركية ليست إيران هي العدو الأساس للولايات المتحدة بل الصين ثم روسيا وبعدها تأتي إيران (لاحظ ان الإرهاب غير موجود في هذه الاستراتيجية).
هل تكشف أميركا في حربها على إيران عن أسرار عسكرية استراتيجية ترتبط بالذكاء الاصطناعي في الوقت الذي تقف الصين وروسيا يراقبان ويستنتجان ويكشفان اسراراً عظيمة تحتاجها استراتيجيتهما القومية. هذا يحمل في طياته مخاطر استراتيجية عظمى.
يبقى الاحتمال الثالث وهو الذي تملك إيران وحلفاؤها اليد الطولى فيه، وهو الانتظار الحامي.
تقوم إيران بضربات مدروسة في مواقع حسّاسة تظهر ان إيران لا تخشى الحرب بل تتصرف كأنها ترغب بجر الولايات المتحدة إلى المنازلة الكبرى مشفوعة بحرب نفسية يديرها جنرالات الحرس الثوري تستهدف عائلات الجنود الأميركيين كما رفع الروح المعنوية للشعب الإيراني. وتهدف إيران إلى جعل الانتظار مكلفاً جداً للاقتصاد العالمي وللسياسة الأميركية ضمن استراتيجية روسية إيرانية (لا تمانع بها أوروبا) تقتضي العودة إلى الاتفاق النووي بأقل الخسائر.
رغم احتمال الانزلاق إلى الحرب في اي لحظة، فإن الطرفان يفضلان تجنبها. فلمن تكون الغلبة؟
استراتيجية التجويع ام استراتيجية الانتظار الحامي. وهل يملك الروس ما يكفي من أوراق الضغط للذهاب إلى التسوية ام أن حسابات “٤ ب” قادرة على جرّ العالم إلى الحريق الكبير؟ اعتقد انه في هذه اللحظة لا أحد يعلم.