الدكتور علي أحمد خليفة ، استاذ في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية– بيروت – إنَّ الإشكاليَّات التي تتمحور حول قياس الديمقراطية في أيّ نظام سياسي، لا تقاس من خلال عدد الأحزاب أو القوى أو الجهات التي أجيز لها أن تمارس العمل السياسي، وإنَّما من خلال التداول السلمي والفعلي للسلطة بين الجميع، وعبر الطبقات الاجتماعيَّة المختلفة، وما يترتَّب على ذلك من آثار على المستوى الواقعي بغية إتاحة المشاركة الشعبيَّة، وتكافؤ الفرص لأفراد المجتمع كافَّة دون تمييز أو تصنيف أو استبعاد أو تهميش. باعتبار أنَّ الإقرار بمبدأ التعدُّدية السياسيَّة لا يعني وحده بأنَّ الديمقراطية قد تحقَّقت، فالديمقراطيَّة تعني قبل كل شيء منع احتكار السلطة والثروة من قبل فريق واحد، أو طائفة اجتماعيَّة معيَّنة، أو طبقة اقتصادية فاقمت ثروتها على حساب الشعب، وتالياً تعزيز فرص التلاحم الوطني بين أعضاء الجماعة الوطنيَّة، بشكل خاصّ، والجماعات الوطنيَّة المتشرذمة تحديداً، أو التي تتكوَّن من جماعات عدَّة، لأنَّ الضرورة تقتضي أن تكون هذه التنمية متوازنة في مضامينها وأبعادها وأهدافها.
كما أنَّ تحقيق المساواة، من خلال قيام أحكام وقواعد قانونيَّة تتَّصف بالعموميَّة تسود المجتمع، يجب أن تقوم على قواعد تطبَّق على جميع أفراد المجتمع دون استثناء، بغض النظر على انتماءاتهم العرقية أو الطائفية أو المذهبيَّة أو المناطقية أو الجهوية، بحيث يكون تولِّي المناصب في المجتمع قائماً على أساس الكفاءة والجدارة والتأهيل، وليس على أساس الاعتبارات الطائفية أو الاعتبارات الضيِّقة كالعلاقات الشخصيَّة والقرابة والاستزلام والمحاسيب والجاه والسلطة والمال وغيرها.
كل ذلك، دون أن ننسى أهميَّة العمل على تنمية قدرات النظام السياسي البنيوية ليصبح قادراً على معالجة المشاكل، كالانقسامات والتوتُّرات التي تحدث في المجتمع، وتنمية قدرات النظام السياسي التنظيميَّة لتحقيق العدالة التوزيعيَّة، والقدرة على مواجهة التغيُّرات المستمرَّة التي يمرّ بها المجتمع والدولة وتحصينهما وتمتينهما، في ظل التحوُّلات الدولية والانعطافات القاسية، والمتهوِّرة التي تسودها الهيمنة والتسلُّط! والتي تحرم بنتائجها أصحاب الحقّ من أبسط حقهوقهم، والمفاهيم المعولمة الناظمة لقواعد السيطرة الدولية المالية والاقتصادية وغيرها، التي تؤمِّن مصالح الكبار دون أن تراعي عالمية الحقوق والقضايا الأساسيَّة للشعوب، ومنع التمحورات الداخلية على مصالح هؤلاء بإزالة أسبابها وهواجسها من خلال تكريس المصالحة مع الوطن النهائي لجميع أبنائه، ومع الذات التي يعتريها اللإطمئنان للآخر المندفعة دوماً إلى انتظار الفرصة للخروج من بوتقة الإجماع الوطني، ومع التاريخ الذي يجعل من الجغرافيا جزراً كيانية سياسية واجتماعية واقتصادية، التي تنتظر لحظة الإنفصال المدفوع بالتحريض الخارجي والمرغوب بوهم الرهان على الانتقال لخيارات ظاهرها مغري وباطنها مدمر، يطيح براكبيه ويضعف من قوَّة المناعة الوطنية.
كذلك، ولكون الحريَّة والتنمية هما مفهومان متَّصلان ومترابطان، والتاريخ والواقع يثبتان أنَّ التجارب التي يجري فيها الفصل بين الحريَّة والتنمية تنتهي بالفشل، باعتبارهما يرسِّخان بعضهما البعض، فإنَّ غياب الحريَّة والرقابة والمشاركة الشعبيَّة سيؤدِّي حتماً إلى غياب العدالة وحكم القانون، وهو الأمر الذي سيقود إلى تعزيز الإدارة السيئة والفساد، لتسود قيم الشخصانيَّة والارتجال والتفرُّد والاستئثار من قبل الجماعة المتحكِّمة والمالكة للقرار السياسي. وبالتالي يطغى على النظام نزعة المركزيَّة الشديدة، ويغيب عنه سلطة القانون ونُظُم الرقابة والمساءلة، لتتحوَّل الفئة المستبِدَّة بالقرار إلى هيئة فوق القانون وفوق الدستور، فلا تسمح حتى بتوجيه النقد لها. فتلجأ في تثبيت سيطرتها إلى وسائل الاحتواء والترغيب والترهيب، وتقاسم المكاسب والإقصاء والتهميش والقمع، حسب الحالة التي تواجهها، تراهن حيناً وتداهن أحياناً وتنتظر اقتناص الفرص التي تتفوَّق بها للاقتصاص من معارضيها. وبالتالي، تنشئ حالة غير مستقرة تغذي نزعة اللجوء إلى التقوقع والتموضع يسود فيها شعور الظلم والامتهان، الذي يدفع بها إلى الانفصال والتفكك وضياع الوطن.
من هنا، فإنَّ إرساء النظام الديمقراطي بات يتطلَّب إقامة بنيان متكامل يشمل مكوِّنات عديدة من الضمانات المتعلِّقة بصيانة حقوق الإنسان، وحريَّة الرأي والتعبير، وتكوين الجمعيات والانضمام إليها، وسيادة القانون، وإجراء انتخابات دوريَّة حرَّة نزيهة، من خلال قانون انتخابي يجسِّد مبادئ ومعايير العدالة والتمثيل الصحيح والشفافية والتعدُّدية كافَّة، وبوجود نظام يسمح بتداول السلطة بصورة فعَّالة رسميَّة ومنظَّمة، وفوق ذلك ضرورة وجود نظام للضبط والمراقبة، يجعل من المنتخبين للمناصب العامَّة مسؤولين مسؤوليَّة كاملة أمام الناخبين، وبالتالي قيام الدولة المدنية التي تجعل الإنسان هدفاً ومحوراً، وتحقيق ثوابت العدالة الاجتماعية والاقتصادية. وذلك بغية تجسيد مفاهيم الدولة الديمقراطيَّة المؤسَّسة على مرتكزات حقيقيَّة، الساعية لتأمين المشاركة السياسيَّة الفعَّالة، التي تُعتبر المظهر الرئيس للديمقراطيَّة، الذي يتطلَّب تحقيقها تواجد مجموعة من الشروط، منها:
- اعتبار جميع المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات العامَّة، وإلغاء مظاهر التمييز والتمايز والتصنيف كافَّة تحت أي شكل أو اعتبار أو ضرورة.
- تحقيق كفالة الدولة لحريَّة الفكر والتعبير عن الرأي وحريَّة الإعلام والصحافة، للمساهمة في رفع درجة الوعي حول قضايا الإنسان والمجتمع والدولة، وتأمين المشاركة الفعَّالة في جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة.
- اعتماد التعدُّدية السياسيَّة والحزبيَّة كسبيل لتداول السلطة سلميّاً وتنظيم الأحكام والإجراءات الخاصَّة بتكوين التنظيمات والأحزاب السياسيَّة وممارسة النشاط السياسي، دون استغلال الوظيفة العامَّة أو المال لمصلحة خاصَّة بحزب أو تنظيم سياسي أو فئة معيَّنة، وتقوية وتفعيل دور التنظيمات السياسيَّة الوسيطة من الأحزاب، وجماعات المصالح، وجماعات الضغط، ومؤسَّسات المجتمع المدني.
- بناء المجتمع على أساس التضامن الاجتماعي القائم على العدل والحريَّة والمساواة، وإعمال مبدأ تكافؤ الفرص لجميع المواطنين، سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً في جميع المجالات.
- تفعيل دور المؤسَّسات والهيئات في الدولة، وبناء المؤسَّسات السياسيَّة القادرة على استيعاب القوى السياسيَّة في المشاركة السياسيَّة.
- تحقيق الانتعاش الاقتصادي الحقيقي داخل المجتمع، المستند إلى إمكانات ومقدرات الدولة وطاقات أبنائها، دون الارتهان إلى الوصفات الجاهزة والشروط الجائرة التي تفرضها مصالح الدول والمنظمات المالية، الساعية إلى تطويع الشعوب والأنظمة السياسية لتحقيق مآربها وغاياتها. وبالتالي إفقادها للسيادة على قراراتها ورهن مصيرها ومستقبلها.
إنَّ كل ذلك، وفي زمن الإنهيارات التي أوهنت قوَّة الدولة والأمَّة وتركتهما أشلاء متناحرة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وبنيوياً، تأتي التنمية السياسيَّة، التي تعتبر مفهوماً من المفاهيم الحديثة وبُعداً أساسيّاً من أبعاد التنمية الشاملة، كضرورة تساهم في تنظيم الحياة السياسيَّة ومتابعة أداء الوظائف السياسيَّة في إطار الدولة، عبر تطوير النُّظُم والممارسة السياسيَّة، لتصبح أكثر ديمقراطيَّة، وتعكس تمثيل الجماهير لقيم الديمقراطيَّة وتحقيق المساواة السياسيَّة بين أبناء المجتمع. باعتبارها عمليَّة تتضمَّن بناء المؤسَّسات وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية وترشيد تولي السلطة، بهدف تحقيق قسط من الاستقرار السياسي، وبناء النظام السياسي وإجراء عمليَّات التحديث عليهِ، ليصبح نظاماً عصريّاً متطوراً، متحوِّلاً إلى النُّظُم الديمقراطيَّة المؤنسنة، التي تعني في أحد أبعادها مزيداً من المشاركة في العمليَّة السياسيَّة، عبر التكوينات الاجتماعيَّة العديدة، وتأخذ في الاعتبار الشعب السياسي بأكمله، دون استبعاد أي من مكوناته.
كما يأتي موضوع التعدُّدية السياسيَّة في كنف الدولة والأمة تنافساً في تطوير والتغيير نحو الأفضل الذي يخدم الدولة والشعب وليس إنقساماً وتباعداً، والتي تعتبر من المسائل الضروريَّة الملحَّة لكل بلد حرّ يريد أن يحافظ على استقلاله، ويسعى نحو بناء ديمقراطي وتكوين نظام سياسي جديد أو عقد اجتماعي جديد، يستوعب كل القوى الوطنيَّة والقوميَّة، وإقامة مصالح جديدة قائمة على التوزيع العادل للثروات الوطنيَّة، والقيام بعملية البناء السياسيّ خارج القيود الطائفية والفئوية والجهوية، وذلك عن طريق مشاركة القوى الوطنيَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة الفاعلة في المجتمع كافَّة، التي باستطاعتها المساهمة والمشاركة في عمليَّة صنع القرار السياسي، والحفاظ على عمليَّة تداول السلطة سلميّاً. وهي تعتبر عنصراً مهمّاً من عناصر وجود الديمقراطيَّة وبناء الوحدة الوطنيَّة، التي تؤمِّن القابلية لدى الأفراد كافَّة للموافقة على الأشكال الجديدة للسلطة والتنظيمات والطرق الجديدة لتداولها، بما يخدم المصلحة الوطنية ومستقبل الوطن. كذلك اعتماد الحوار الوطني بين أطياف المجتمع وتكويناته أساساً ومنهجاً ونبراساً لحل الخلافات والنزاعات والانقسامات، ومدخلاً لاستعادة عوامل القوَّة الداخلية والخارجية ووقف النزف بأشكاله كافَّة، بالإضافة إلى تمتين الساحة الداخلية وتحصينها من مخاطر الانجرار إلى أجندات دولية هدَّامة يسوِّق لها من لا يرى وجوده ومكانته إلا في سرابها، لا ترى سوى مصالحها الخاصَّة على حساب مصالح الشعوب وأصحاب الأرض.
التحدِّيات كبيرة والمخاطر محدقة، وهي أكثر من خطيرة على الدول والشعوب، والفرصة السانحة للخروج سالمين إلى بر الأمان واستعادة الدور والحقوق والمكانة موجودة رغم ضآلتها، لأنَّ فيها من عوامل القوَّة ما يمنع ويردع ويحمي ويسمح للحفاظ على الهوية والأرض والانتماء ومستقبل الأوطان، لكنها لن تتكرَّر في حال نجاح صفقات المشاريع الاستعمارية التفتيتية بقرن أو دون قرن.