الدكتور علي أحمد خليفة – إنَّ معالجة المنطلقات تقتضي معرفة مفهوم توازن القوى ودلالته وأبعاده، الذي ينطلق في أنَّه نظرة سياسيَّة يستدل فيها على كيفيَّة المحافظة على ميزان القوى، بحيث يمنع التفرُّد والهيمنة وفرض إرادة أحدهم أو بعضهم، وهو حالة تؤدِّي إلى استقرار التفاعلات السياسيَّة، بحيث يبدو كأنَّه قانون داخل العلاقات. كما تستدعي الوقوف عند مفهوم الأزمة ومخاطرها وأساليب قراءتها وطُرق التعاطي معها وإدارتها، وإمكانيَّة القراءة العميقة لها وتجلِّياتها، وتحليلها وسبر غورها، ووضعها في إطار فكرٍ متنوِّر يستشرف المستقبل فيها ويؤسِّس له، ويرسم قواعد وأسس لها. وهي ترتكز على القدرة في البحث والتحليل والنظرة الثاقبة والقراءة الثابتة، التي تشكِّل بنياناً متيناً، يخرجها من التحليلات الصحفيَّة، ويؤطِّرها في مواقف لا تحمل اللبس، وإن حملت المرونة بعض الشيء في التعاطي مع مستجداتها. وبالتالي، فإنَّ فهم التوازن لا يعني عدم الموقف، ولا ضياع البوصلة فيه. كما أنَّه ليس مسايرة أو مهادنة عليه، بل تصوَّرات متماسكة على التفاصيل دون المسّ بجوهرها.
أمَّا لجهة إدارة الأزمات، فإنَّها ترتكز على فهم سير الأحداث السياسيَّة والأزمات بأنواعها كافَّة، ودورها في تاريخ الشعوب والمجتمعات ومستقبلها، سواءٌ على صعيد الهدم أو البناء. وهي تبدأ بالقراءة المتأنيَّة لدور الأزمة بشكل عام، وتفضي إلى تلمُّس خيط يقود إلى حقيقة مفادها، أنَّ المجتمعات التي تعتمد قيادة كفوءة في التعامل مع الأزمات، هي أصلب عوداً وأكثر على الممانعة والاستمرار، وإنَّ إدارة الأزمات هو رهان معرفي لإيجاد المباني المؤسِّسة للحلول فيها، وتأمينها بمندرجات الحقّ.
- تطوُّر الصراع وماهيَّة الأسباب: إنَّ التنظيم الدولي، في مختلف الميادين، يُعتبر بأنَّه جاء كردَّة فعل لتمادي الدولة في انكماشها على نفسها، وتشبثها البالغ بسيادتها، ودفاعها الأعمى عن مصالحها، ونفورها الغريب في التعاون مع زميلاتها. بحيث أنَّ الدولة قد عكفت، منذ تكوُّنها في نهاية القرون الوسطى، على تنظيم شؤونها الداخليَّة، والاهتمام بقوَّتها العسكريَّة، والتطلُّع إلى ما يملكه غيرها، وتحريض مواطنيها على مهاجمة جيرانها. وكان من نتيجة هذه السياسة الهوجاء أن تضاربت المصالح، وتفجَّرت الأطماع، واندلعت الخصومات بين الدول، وتحوَّل التاريخ المعاصر إلى سفر حروب متعاقبة متلاحقة. وإذا كانت الحروب تنشب في الماضي لأسباب شخصيَّة أو تافهة، فأسبابها تطوَّرت اليوم فارتدت لباس العقائد والأفكار والمصالح والسيطرة.
لكنَّ مقاربة المسؤوليَّة الدوليَّة يجب أن تكون في توزيعها بالتوازن بين المتغيِّر والحاجة والإمكانيَّة والتبدُّلات في السياسة الدوليَّة. بحيث أنَّه إذا كان التغيُّر السريع الذي يتَّسم بالإحاطة والشمول هو أكثر السمات أو الخصائص المميِّزة لملامح عصرنا، فثمَّة ارتباط وثيق بين التغيُّر في الشؤون والعلاقات الدوليَّة والتغيُّر في ملامح التنظيم الدولي، والذي يجب أن يكون جلَّ اهتمامه في تكريس منظومة الحقوق والحريَّات العامَّة، فاحترام حقوق الإنسان يشكِّل اليوم العمود الفقري لكل نظام ديمقراطي، أو لكل نظام يطمح أن يكون ديمقراطيّاً. وليس معنى ذلك أنَّ التنظيم الدولي قد استطاع، في الفترة الأخيرة، أن يواكب ويلبِّي المطالب والحاجات المتزايدة التي يفرضها أو يحتِّمها تطوُّر العلاقات الدوليَّة وتعقُّد الأحداث العالميَّة.
وبنظره عامة، فإنَّ التغيير الذي عرفه التنظيم الدولي كان، إلى حدٍ كبير، إنعكاساً للتغيُّرات التي طرأت على السياسة العالميَّة. وإنَّ الخشية والمخاوف ليست في الإنجازات على مستوى التنظيم الدولي والقوانين الدوليَّة وقواعد المسؤوليَّة، بل في تدخُّل الدول الكبرى المهيمنة على مقدرات العالم، بإخضاعها تلك التطوُّرات والتغيُّرات الدوليَّة للاعتبارات والمصالح السياسيَّة، وإبقاء الفجوة بين النظريَّة والتطبيق قائمة.
- تداعيات إنهيار المشروع العربي على القضية المحورية وآفاق استعادة الحقوق العربية: في ظل هذه التطوَّرات المتسارعة إقليمياً ودولياً يجب أن لا يغيب القضايا الأساسيَّة التي انبثقت من خلال الدعوة إلى قيام مشروع عربي واحد يواجه الخطر المحدق الآتي من العدو الإسرائيلي، والاتجاه بالبوصله نحو فلسطين القضية الأساس، والمحور الذي يتهدَّد من خلال ضياعها إنعدام الأسباب التي تمهَّد للوصول إلى قيام الأمة، والانقلاب على التضحيات التي قدَّمتها الشعوب لنيل استقلالها في دول العالم العربي.
فالفكرة العربيَّة التي كانت قد تبلورت في العصر الحديث مع تبلور الفكرة القوميَّة، ومع انتشار الأفكار القيِّمة التي أذاعها المفكرون العرب حول هذا الموضوع، تقوم على فكرة وجود أسس قوميَّة متينة، وإمكانات اقتصاديَّة هائلة، وطاقات بشريَّة وحضاريَّة عظيمة، يواجهها أخطار استعماريَّة وصهيونيَّة تهدِّد العرب جميعاً، وتطمع في أرضهم وثرواتهم، وتستهدف إدامة التفرقة بينهم. وهي تمكَّنت من استغلال هذه المقدرات وتوجهيهها لحساب مشاريعها، والالتفاف على قيام اتِّحاد الدول العربيَّة واستثماره وتقييد حركة الفكر في قالب مؤسساتي جامد، بغية تسهيل تدجينها والقوطبة على تصاعدها المتنامي كفعل وردَّة فعل على وعد بلفور ومساعي الصهيونية العالمية لزرع الكيان الإسرائيلي في جسد المنطقة العربية، وبالتالي الالتفاف على حركة المقاومة المشروعة التي نشأت لعزلها، والتضييق عليها لمنعها من أن تصبح مشروع الأمة جمعاء في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي واغتصاب الحقوق.
وبالتالي، فإنَّ أولى الآمال التي عُقدت على الجامعة العربية لم تتحقَّق، ولم يستفد من كونها أكثر من منظَّمة إقليميَّة تضمّ دولاً شقيقة، تربط شعوبها قوميَّة واحدة، ومصالح واحدة، وتحيط بها أخطار واحدة، وأمامها مصير واحد فحسب. بل وخرجت عن أهدافها القوميَّة، من خلال الدور الذي لعبته في تفكيك مفهوم القوَّة والمنعة العربيَّة، عبر السعي إلى ضرب الثوابت وتهديم الممانعة أمام العدو الإسرائيلي، من خلال فتح الباب على مصراعيه لهذا العدو بالسماح بفرض الاتفاقيات المذلَّة وغضّ النظر عن الاعترافات الضمنية بكيانه لتسهيل مهمَّة التطبيع معه، خلافاً لأهدافها، وخلفه من اللاهثين وراء الأحلام التي تدغدغ أمانيهم، عبر إعادة رسم المنطقة بأدوار مختلفة وبأيديولوجيا مغايرة. وهذا ما جعل من الأمَّة العربيَّة هيكلاً عاجزاً عن اعتماد سياسة واحدة أو موحَّدة، إزاء المخاطر والمؤامرات والاعتداءات التي تتعرَّض لها، رغم أنَّها تملك تراثاً فكريّاً وحضاريّاً مرموقاً، وثرواتٍ هائلة في كل المجالات، وعدداً من المواطنين والمساحات الجغرافيَّة والمواقع الاستراتيجيَّة، القادرة على الارتقاء من خلالهم إلى مصاف الدول العظمى والقويَّة.
كما أنَّها لم تقف عند هذه الحدود، بل ساهمت في العمل على تفكيك العالم العربي والتأسيس للانهيارات العربيَّة عبر تشجيع العدوان على سوريا وإدخال الإرهاب إلى أراضيها وأراضي العراق والأردن ولبنان ومصر، بإسناد غربي أممي ممهور بسياسة المصالح الدولية وخدمة للعدو الإسرائيلي. وهي ما زالت تدفع بنفس الاتجاه بأخذ ما تبقى من الدول العربية إلى حروب خبط عشواء، تسيره عنتريات واهية ومواقف ضيقة، أدخلت أصحابها في أزمات متلاحقة، لا تعي كيف تخرج منها. وهذا ما سيؤدي إلى إنفراط هذا العقد العربي.
والأخطر من ذلك يكمن في تسهيلها لمهمَّة الكيان الإسرائيلي ومن وراءه مالياً وسياسياً وعسكرياً للإطباق على القضية الأساس، وتضييع فلسطين وتشريد ما تبقى فيها من شعبها مجدداً إلى دولة موعودة تحت مسمَّيات متعدِّدة لا حول له فيها ولا قوَّة، والسكوت، الذي يعتبر علامة الرضى، عن منح الولايات المتحدة الأميركية الأراضي العربية المحتلة إلى سيادة الكيان المحتل لها، في مؤامرة يروِّج لها بصفقة العصر. عبر التحشيد لها بالوعود الموهومة والتهويل على معارضيها بالويل والثبور وعظائم الأمور، بتعظيم مكاسبها على الدول العربية التي تسير بركبها وإقصاء الدول التي يشكَّل فيها مقاومة في وجهها عبر فرض اتباع سياسة الحياد الأحادي، والتهويل عليها بالحرب والحصار المالي والاقتصادي وصولاً إلى التجويع فالاستسلام.
إنَّ هذا الحياد، الذي تمَّ التسويق له بسياسة نفض اليد وعدم حرق الأصابع بنار الخصومات الإقليمية والمشاكل الدوليَّة، يروَّج كثقافة أنَّ العمل أيّ عمل هو مجازفة، والرأي أيّ رأي يسبب مشاكل ومتاعب، والحكمة الحكمة في حركة باطنها سكون، هو الكلمة التي باطنها التنصُّل. وهي سياسة لم يعد لها ما يبرِّرها في ظل هذه المشاريع الاستعمارية الجديدة القديمة، ولم تعد صالحة للاستمرار في ظل التداعيات التي ستطال الجميع، لأنَّها لم تعد قادرة على درء مخاطر الأحداث الخطيرة المستجدَّة، لا سيَّما بعد بروز عاملين أساسيين:
الأوَّل، تقوية وجود الكيان الإسرائيلي في المنطقة العربية وتوسيع سيادته المغصوبة، الذي أصبح يهدِّد حقيقةً، بأطماعه التوسُّعيَّة، لبنان ودول المنطقة كافَّة.
الثاني، تنامي الدور الإسرائيلي والأميركي في التحريض على طبيعة الخلافات العربيَّة حول العقائد والمبادئ والاتجاهات السياسيَّة والاجتماعيَّة، لاستكمال إنهاك الدول وتفتيتها وجعلها مشوَّهة حرب لا تقوى على حكم نفسها بنفسها.
لذلك فإنَّ الحديث عن استعادة مفاهيم قديمة بطرح صفقات مشبوهة، لأسباب تتعلَّق بمصالحها ومكاسبها، يبقينا في دوامة الفكرة القديمة التي كانت تقول، بأنَّ لا حماية للبنان بغير الضمانات الأجنبيَّة، وهو ما سقط بعد احتلال العدو الإسرائيلي للبنان، وأُثبت عكسه بتحرير الأراضي اللبنانية بالمقاومة. وفي تسويات دولية مجحفة يضيع معها فلسطين وحقّ العودة، لم يحترمها من نظَّر لها ولم يكترث لأبسط الحقوق التي مهروها بحبرهم الذي لم يجفّ، بل أمعنوا في القفز عن حقوق الشعب الفلسطيني باستعادة دولته المسلوبة بقرارات جائرة من إعلان القدس عاصمة الكيان المغتصب إلى تهويد فلسطين إلى ممارسة التنكيل بالشعب الفلسطيني بأشكاله كافَّة. لكنَّ استبسال الفلسطينيين وتشبثِّهم بأرضهم ومقاومتهم ومواجهتهم للعدو الأسرائيلي بأصناف القوَّة التي يملكونها كافَّة حصلوا على معادلة البقاء، التي أرغمت العدو على التراجع والخذلان في كل مرَّة كان يحاول فيها النيل من ثبات وصمود الفلسطينيين، وآخرها فرض معادلة الردع التي تتشابه مع تفاهم نيسان 1996 اللبناني الذي فرضته المقاومة بالقوَّة.
فهل يفقه من ينادي بحياد الدولة أو يعمل لأجلها ماهيَّة الواجبات المفروضة والحقوق الممنوحة؟ هل يسعى لدفع الدولة لخوض الاقتتال مع شعبها ومقاومتها؟ هل يعي من يسوِّق لنزع سلاح المقاومة أو التأليب عليها لإخراجها من معادلة التوازن والردع أنَّه يدفع بلبنان إلى الأحضان الإسرائيلية؟ هل يريد من الدولة أن تكون البوليس الذي ينفِّذ الإملاءات الدوليَّة وتوصيفاتها وتصنيفاتها، وجرِّها إلى الانفصام عن شخصيتها وانتمائها؟
المقاومة ثمَّ المقاومة هي خيار تحرير الأراضي المحتلة وحماية الأوطان من العدو الإسرائيلي والمستعمرين الجدد، وإنَّ من ينظِّر عكس ذلك هو واهم أو يحاول أن يوهم من كان إليه سبيلاً.